الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)} وقوله تعالَى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة}، قال ابنْ عَبَّاس وغيره: نَزلَتْ على سؤالِ قَوْمٍ من المسلمين النبيَّ صلى الله عليه وسلم عنِ الهِلاَلِ، وما فائدةُ مُحَاقِهِ، وكمالِهِ، ومخالفته لحالِ الشمْسِ. و {مَوَاقِيتُ} أي: لمحَلِّ الدُّيون، وانقضاءِ العِدَدِ والأَكْرِيَةِ، وما أشبه، هذا من مصالحِ العبادِ، ومواقيت للحَجِّ أيضاً: يعرف بها وقته وأشهره. وقوله سبحانه: {وَلَيْسَ البر...} الآية: قال البَرَاء بن عَازِبٍ، والزهْريُّ، وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إِذا حَجُّوا، أو اعتمروا، يلتزمون تشرُّعاً ألاَّ يحول بينهم وبَيْن السماء حائلٌ، فكانوا يتسنَّمون ظهور بيوتِهِم على الجُدُرَاتِ، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور بيوتهم فُتُوحاً يدخلُون منْها، ولا يدخلون من الأبواب، وقيل غير هذا ممَّا يشبهه. وقوله تعالى: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله...} الآيةُ هي أول آية نزلَتْ في الأمر بالقتالِ. قال ابن زَيْد، والربيعُ: قوله: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} أي: في قتالِ مَنْ لم يقاتلْكم، وهذه الموادَعَةُ منسوخةٌ بقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كَآفَّةً} [التوبة: 36] وقال ابن عَبَّاس وغيره: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} في قتْلِ النساءِ، والصبيانِ، والرهبانِ، وشبههم؛ فهي مُحْكَمَةٌ. وقوله تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ...} الآية: قال ابْنُ إِسحاق وغيره: نزَلَتْ هذه الآيةُ في شأنِ عَمْرو بن الحَضْرَمِيِّ، وواقدٍ، وهي سَرِيَّةُ عبد اللَّه بن جَحْش، و{ثَقِفْتُمُوهُمْ} معناه: أحكمتم غلبتهم، يقال: رَجُلٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ، إِذا كان محكِماً لما يتناوَلُهُ من الأمور. و {أَخْرِجُوهُم}: خطابٌ لجميع المؤمنين، والضميرُ لكفار قريش. و {الفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل}، أي: الفتنةُ التي حملوكم علَيْها، ورامُوكم بِهَا على الرُّجوع إِلى الكفر- أشدُّ من القتْل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنةُ، أي: الكفر والضَّلال الذي هم فيه أَشَدُّ في الحَرَمِ، وأعظم جُرْماً من القتل الَّذي عيَّروكم به في شأن ابْنِ الحَضْرَمِيِّ. وقوله تعالى: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام...} الآية. قال الجمهورُ: كان هذا ثُمَّ نُسِخَ، وقال مجاهد: الآية محكمةٌ، ولا يجوز قتال أحد، يعني: عند المسجد الحرام، إِلا بعد أن يقاتل. قلتُ: وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَلَمْ تُحَلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي " يقوي قول مجاهد، وهذا هو الراجحُ عند الإِمام الفَخْر، وأنَّ الآية محكمةٌ، ولا يجوز الابتداء بالقتالِ في الحرم. انتهى. قال ابن العَرَبِيِّ في «أحكامه» وقد روى الأئمَّة عن ابن عَبَّاس؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يَوْمَ فَتْح مكَّة: " إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تعالى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تعالى إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهَا لأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ". فقد ثبت النهْيُ عن القتالِ فيها قُرآناً وسُنَّة، فإِن لجأ إِليها كافرٌ، فلا سبيل إِلَيْه، وأما الزانِي والقاتلُ، فلا بُدَّ من إِقامة الحَدِّ عليه إِلا أنْ يبتدئ الكافر بالقتَال فيها، فيقتل بنصِّ القرآن. انتهى. وقرأ حمزة والكسائيّ: «وَلاَ تَقْتُلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حتى يَقْتُلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فاقتلوهم»، أي: فإِن قتلوا منْكم، والانتهاء في هذه الآية هو الدخولُ في الإِسلام.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ}: «الفتنة»: هنا الشِّرْك، وما تابعه من أذى المؤمنين. قاله ابن عَبَّاس وغيره. و {الدين} هنا: الطاعةُ، والشَّرْعُ، والانتهاءُ في هذا الموضع يصحُّ مع عموم الآية في الكفار؛ أنْ يكون الدُّخُولَ في الإِسلام؛ ويصحُّ أن يكون أداء الجزية. وقوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ...} الآية: قال ابن عبَّاس وغيره: نزلَتْ في عمرة القَضِيَّةِ، وعامِ الحديبيَةِ سنَةَ ستٍّ، حين صدَّهم المشركون، أي: الشهرُ الحرامُ الذي غلَّبكم اللَّه فيه، وأدخلكم الحَرَمَ عليهم سنَةَ سَبْعٍ- بالشهر الحرامِ الذي صدُّوكم فيه، والحرمات قصاصٌ. وقالتْ فرقةٌ: قوله: {والحرمات قِصَاصٌ}: مقطوعٌ مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإِسلام أنَّ من انتهك حرمَتَكَ، نِلْتَ منه مثْلَ ما اعتدى عليك. {واتقوا الله}: قيل: معناه في أَلاَّ تعتدوا، وقيل: في ألاَّ تزيدُوا على المثل. وقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة...} الآية: سبيلُ اللَّهِ هنا: الجهادُ، واللفظ يتناوَلُ بَعْدُ جميعَ سُبُلِهِ، وفي الصحيح أنَّ أبا أيُّوب الأنصاريَّ كان على القُسْطَنْطِينِيَّةِ، فحمل رجُلٌ على عَسْكَر العدُوِّ، فقال قومٌ: ألقى هذا بيده إِلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إِنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في الأنصار، حين أرادوا، لمَّا ظهر الإِسلام؛ أن يتركوا الجهادَ، ويَعْمُروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال اللَّه تعالى فيه: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [البقرة: 207]. وقال ابن عبَّاس، وحذيفةُ بْنُ اليَمَانِ، وجمهورُ الناس: المعنى: لا تُلْقُوا بأيديكم؛ بأنْ تتركُوا النَّفَقَةَ في سَبِيلِ اللَّه، وتخافوا العَيْلَةَ. {وَأَحْسِنُواْ}: قيل: معناه: في أعمالكم بامتثال الطَّاعات؛ روي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى: وأحسنوا في الإِنفاق في سبيل اللَّهِ، وفي الصَّدَقَات، قاله زَيْدُ بْنُ أَسْلَم، وقال عِكْرِمَة: المعنى: وأحْسِنُوا الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ. * ت *: ولا شَكَّ أن لفظ الآية عامٌّ يتناول جميعَ ما ذكر، والمخصَّص يفتقر إِلى دليل. فأما حُسْن الظن باللَّه سبحانه، فقد جاءَتْ فيه أحاديثُ صحيحةٌ، فمنها: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي "، وفي «صحيح مسلم»، عن جابرٍ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: " لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ " انتهى. وأخرج أبو بكر بن الخَطِيبِ، بسنده، عن أنسٍ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ " انتهى. قال عبد الحَقِّ في «العاقبة»: أَمَّا حسْنُ الظنِّ باللَّهِ عزَّ وجلَّ عند الموت، فواجبٌ؛ للحديث. انتهى. ويدخل في عموم الآية أنواعُ المعروف؛ قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ "، قَالَ أبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ؛ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: «لاَ تَحْقِرَنَّ شَيْئاً مِنَ المَعْرُوفِ؛ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَوْ أَنْ تُفَرِّغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ المُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تلقى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ» "، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: " أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ أَهْلُ المَعْرُوفِ فِي الآخِرَةِ "، وقال عليه الصلاة والسَّلام: " إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً خَلَقَهُمْ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ " انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المَجَالسِ وأُنْس المُجَالِسِ».
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} وقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ}: قال ابنُ زَيْد وغيره: إِتمامهما ألاَّ تفسخا، وأن تتمهما، إِذا بدأْتَ بهما، وقال ابن عَبَّاس وغيره: إِتمامهما أنْ تقضي مناسكهما كاملةً بما كان فيهما من دماء، وقال سفيانُ الثَّوْرِيُّ: إِتمامهما أنْ تخرج قاصداً لهما، لا لتجارةٍ، ولا لغيرِ ذلك؛ ويؤيد هذا قولُهُ: {لِلَّهِ}. وفروضُ الحجِّ: النيَّة، والإِحرامُ، والطوافُ المتصلُ بالسعْيِ، يعني: طواف الإِفاضة، والسَّعْيِ بين الصفا والمروة عنْدنا؛ خلافاً لأبي حنيفة، والوقوفُ بعرفة، وزاد ابن الماجِشُونَ: جَمْرة العَقَبَة. وقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} هذه الآية نزلَتْ عام الحديبية عنْد جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهورُ النَّاس على أنَّ المُحْصَرَ بالعَدُوِّ يَحِلُّ حيثُ أُحْصِرَ، وينحر هَدْيه، إِن كان ثَمَّ هَدْيٌ، ويحلق رأسه، وأما المُحْصَرُ بمرضٍ، فقال مالك، وجمهور من العلماء: لا يحله إِلا البيتُ، ويقيم حتى يُفِيقَ، وإِن أقام سنين، فإِذا وصل البيتَ، بعد فوت الحجِّ، قطع التلبيةَ في أوائل الحرم، وحلَّ بعمرة، ثم تكون عليه حجَّة قضاء، وفيها يكون الهَدْي. و «مَا» في موضع رفعٍ، أي: فالواجبُ، أو: فعليكُمْ ما استيسر، وهو شاةٌ عند الجمهور. وقال ابن عمر وعروة: جَملٌ دون جَمَلٍ، وبقرةٌ دون بقرة. وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} الخطابُ لجميعِ الأمَّة، وقيل: للمحصَرِينَ خاصَّة، ومَحِلُّ الهَدْيِ: حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يُحصَرْ بمنى، والترتيب: أن يرمي الحاجُّ الجَمْرَة، ثم ينحر، ثم يَحْلِق، ثم يَطُوف للإِفاضة. وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا...} الآية: المعنى: فحَلَق لإِزالة الأذى، {فَفِدْيَةٌ}، وهذا هو فحْوَى الخطاب عند أكثر الأصوليِّين، ونزلَتْ هذه الآية في كَعْب بن عُجْرَةَ، حِينَ رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَأْسُهُ يَتَنَاثَرُ قملاً، فَأَمَرَهُ بِالحَلاَّقِ، ونَزَلَتِ الرخْصَةُ. والصيامُ؛ عند مالك، وجميع أصحابه: ثلاثةُ أيامٍ، والصدقةُ ستَّة مساكين؛ لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ، وذلك مُدَّانِ بمُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والنُّسُكُ: شاة بإِجماع، ومَنْ أتى بأفضلَ منها ممَّا يذبح أو ينحر، فهو أفضلُ والمفتدِي مخيَّر في أيِّ هذه الثلاثة شاء، حيثُ شاء من مكَّة وغيرها. قال مالكٌ وغيره: كلَّما أتى في القرآن «أَوْ أَوْ»، فإِنه على التخْيير. وقوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ}، أي: من العدُوِّ المُحْصِرِ، قاله ابن عبَّاس وغيره، وهو أشبهُ باللَّفظ، وقيل: معناه: إِذا برأتم من مَرَضِكم. وقوله سُبحانه: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج...} الآية. قال ابن عبَّاس وجماعةٌ من العلماء: الآيةُ في المحصَرين وغيرهم، وصورة المتمتِّع أنْ تجتمعَ فيه ستَّةُ شروطٍ، أن يكون معتمراً في أشْهُر الحجِّ، وهو من غير حاضِرِي المَسْجِد الحرام، ويحل وينشئ الحَجَّ من عَامِهِ ذلك، دون رُجُوع إِلى وطنه، أو ما ساواه بُعْداً، هذا قول مالِكٍ، وأصحابه، واختلف، لِمَ سُمِّيَ متمتعاً. فقال ابن القاسِمِ: لأنه تمتع بكلِّ ما لا يجوز للمُحْرِمِ فعْلُه مِنْ وقْت حلِّه في العمرة إِلى وقْت إِنشائه الحجِّ، وقال غيره: سمي متمتعاً؛ لأنه تمتَّع بإِسقاط أحد السفرين، وذلك أنَّ حق العمرة أنْ تقصد بسَفَرٍ، وحقّ الحج كذلك، فلمَّا تمتع بإِسقاط أحدهما ألزمه اللَّه تعالى هَدْياً كالقَارن الَّذي يجمع الحجَّ والعمرةَ في سَفَر واحدٍ، وجُلُّ الأمة على جواز العُمْرة في أَشْهُر الحجِّ للمكِّيِّ ولا دَمَ عليه. وقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج}، يعني: من وقتِ يُحْرِمْ إِلى يومِ عرفة، فإِنْ فاته صيامها قبل يوم النحرِ، فليصُمْها في أيام التشريق؛ لأنها من أيام الحج. {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}، قال مجاهد وغيره: أي: إِذا رجعتم من منى، وقال قتادة، والربيع: هذه رخصةٌ من اللَّه سبحانه، والمعنى: إِذا رجعتم إِلى أوطانكم، ولما جاز أنْ يتوهَّم متوهم التخْيير بين ثلاثةِ أيَّامٍ في الحجِّ أو سبعة إِذا رجع، أُزِيلَ ذلك بالجليَّةِ من قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ}. و {كَامِلَةٌ} قال الحسن بن أبي الحَسَن: المعنى: كاملة الثوابِ، وقيل: كاملةٌ تأكيدٌ؛ كما تقول: كَتَبْتُ بيَدِي، وقيل: لفظها الإِخبار، ومعناها الأمر، أي: أكملوها، فذلك فرضها، وقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ...} الآيةَ: الإِشارة بذلك على قول الجمهورِ هي إِلى الهَدْي، أي: ذلك الاشتداد والإِلزام، وعلى قول من يرى أن المكِّيَّ لا تجوز له العُمْرة في أشهر الحج، تكون الإِشارة إِلى التمتُّع، وحُكْمِه؛ فكأن الكلام؛ ذلك الترخيصُ لمن لَمْ؛ ويتأيَّد هذا بقوله: {لِمَن لَّمْ}؛ لأن اللام أبداً إِنما تجيء مع الرخص، واختلف الناس في {حَاضِرِي المسجد الحرام} بعد الإِجماع على أهل مكة، وما اتصل بها، فقيل: من تَجِبُ عليه الجمعة بمكَّة، فهو حَضَرِيٌّ، ومن كان أبعد من ذلك، فهو بَدَوِيٌّ، قال: * ع *: فجعل اللفظة من الحضارة، والبداوة. وقيل: من كان بحيثُ لا يَقْصُرُ الصلاة، فهو حاضرٌ، أي: مشاهدٌ، ومن كان أبعد من ذلك، فهو غائبٌ. وقال ابن عبَّاس، ومجاهد: أهل الحرم كلِّه حَاضِرُو المَسْجِدِ الحرامِ، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذَّر من شديد عقابه.
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} وقوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ معلومات} في الكلام حذفٌ، تقديره: أشهر الحج أشهرٌ أو وقتُ الحجِّ أشهر معلوماتٌ، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوَّال، وذُو القَعْدة، وذو الحَجَّة كلُّه. وقال ابن عبَّاس وغيره: هي شَوَّال، وذو القَعْدة، وعَشْرٌ من ذي الحجة، والقولان لمالكٍ- رحمه اللَّه- {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج}، أي: ألزمه نفْسَهُ، وفرض الحج هو بالنيةِ والدخولِ في الإِحرام، والتلبيةُ تَبَعٌ لذلك، وقوله تعالى: {فِيهِنَّ}، ولم يجئ الكلام «فيها»، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال، وقال أبو عثمانَ المَازِنِيُّ: الجمعُ الكثيرُ لما لا يعقل يأتي كالواحدةِ المؤنَّثة، والقليلُ ليس كذلك، تقول: الأجذاعُ انكسرن والجُذُوعُ انكسرت، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله} [التوبة: 36] ثم قال: {مِنْهَآ} [التوبة: 36]. وقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ...} الآية، وقرأ ابن كثيرٍ، وأبو عمرٍو: «فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالَ»، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال، و«لا» بمعنى «لَيْسَ»، في قراءة الرفع، والرَّفَثُ الجماعُ في قول ابن عبَّاس، ومجاهد، ومالك، والفُسُوقُ قال ابن عبَّاس وغيره: هي المعاصِي كلُّها، وقال ابن زَيْد، ومالك: الفُسُوقُ: الذبْح للأصنام، ومنه قوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] والأول أولى. قال الفَخْر: وأكثر المحقِّقين حملوا الفِسْقَ هنا على كل المعاصِي؛ قالوا: لأن اللفظ صالِحٌ للكلِّ ومتناولٌ له، والنهي عن الشيء يوجبُ الاِنتهاءَ عن جَميعِ أنواعه، فحمل اللفْظ على بعض أنواع الفسوقِ تحكُّم من غير دليل. انتهى. قال ابن عباس وغيره: الجِدَالُ هنا: أن تماري مسلماً. وقال مالك، وابن زَيْد: الجدالُ هنا أن يَخْتَلفَ الناسُ أيهم صادَفَ موقفَ إِبراهيمَ- عليه السلام-؛ كما كانوا يفعلون في الجاهلية، قُلْتُ: ومعنى الآية: فلا تَرْفُثُوا، ولا تفسُقُوا، ولا تجادلُوا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: " وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امرؤ صَائِمٌ... " الحديث. انتهى. قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ}، أراد نفيه مشروعاً، لا موجوداً، فإِنا نجد الرفَثَ فيه، ونشاهده، وخبَرُ اللَّه سبحانه لا يَقَعُ بخلافِ مخبره. انتهى. قال الفَخْر: قال القَفَّال: ويدُخُل في هذا النهْيِ ما وقَعَ من بعضهم من مجادلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفَسْخِ الحَجِّ إِلى العمرة، فشَقَّ عليهم ذلك، وقالوا: «أنروحُ إلى منى، ومَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا...» الحديث. انتهى. وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله}: المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا تحضيضٌ على فعل الخير. * ت *: وروى أُسَامَةُ بنُ زيدٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صُنِعَ إِليْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ " رواه الترمذيُّ، والنَّسائي، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» بهذا اللفظ. انتهى من «السلاح» ونحو هذا جوابُهُ صلى الله عليه وسلم للمهاجرينَ؛ حَيْثُ قَالُوا: «مَا رَأَيْنَا كَالأَنْصَارِ»، وأثنوا علَيْهم خيراً. وقوله سبحانه: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى...} الآية: قال ابن عُمَرَ وغيره: نزلَتِ الآية في طائفةٍ من العرب، كانت تجيء إِلى الحج بلا زادٍ، ويبقون عالة على النَّاس، فأمروا بالتزوُّد، وقال بعض النَّاس: المعنى: تزوَّدوا الرفيقَ الصالحَ، وهذا تخصيصٌ ضعيفٌ، والأولى في معنى الآية: وتزوَّدوا لمعادِكُمْ من الأعمال الصالحة، قُلْتُ: وهذا التأويلُ هو الذي صَدَّر به الفخْرُ وهو الظاهرُ، وفي قوله: {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} حضٌّ على التقوى.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ...} الآية: الجُنَاحُ: أعم من الإِثم؛ لأنه فيما يقتضي العقابَ، وفي ما يقتضي الزجْرَ والعتاب. و {تَبْتَغُواْ}: معناه: تَطْلبوا، أي: لا دَرك في أنْ تتجروا وتطلبوا الربْحَ. وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات}: أجمع أهْل العْلمِ على تمامِ حجِّ من وقف بعرفاتٍ بعد الزوال، وأفاض نهاراً قبل الليل إِلا مالك بن أنس، فإِنه قال: لا بدَّ أن يأخذ من الليل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة ليلاً، فلا خلافَ بيْن الأمَّة في تمام حَجِّه. وأفاض القومُ أو الجيشُ، إِذا اندفعوا جملةً، واختلف في تسميتها عرفةَ، والظاهر أنه اسم مرتجلٌ؛ كسائر أسماء البقاع، وعرفةُ هي نَعْمَانُ الأَرَاكِ، والمَشْعَر الحَرَامُ جمعٌ كله، وهو ما بين جبلَيِ المزدَلِفَةِ من حَدِّ مفضى مَأْزِمَي عرفَةَ إِلى بطن مُحَسِّرٍ، قاله ابن عبَّاس وغيره، فهي كلُّها مشعر إِلا بطن مُحَسِّرٍ؛ كما أن عرفة كلُّها موقف إِلا بطن عُرَنَةَ بفتح الراء وضمها، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: " عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، والمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَشْعرٌ، أَلاَ وارتفعوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ "، وذكر هذا عبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ في خطبته، وذِكْرُ اللَّه تعالى عند المشعر الحرام ندْبٌ عند أهل العلْم، قال مالك: ومن مَرَّ به، ولم ينزلْ، فعليه دَمٌ. وقوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} تعديد للنعمة، وأمر بشكرها. * ص *: {كَمَا هَدَاكُمْ}: الكاف للتشبيهِ، وهو في موضع نصْبٍ على النعت لمصدرٍ محذوفٍ، و«مَا» مصدريةٌ، أي: كهدايتِهِ، فتكون «مَا» وما بعدها في موضع جَرٍّ، إِذ يَنْسَبِكُ منْها مع الفعل مصْدَرٌ، ويَحتملُ أن تكون للتعليلِ على مذهب الأخفش، وابن بَرْهَانَ، وجوَّز ابن عطيَّة وغيره، أنْ تكون «مَا» كافَّة للكاف عن العَمَل، والأول أولى؛ لأن فيه إِقرار الكافِ على عملها الجرّ، وقد منع صاحبُ «المستوفى» أنْ تكون الكافُ مكفوفةً ب «مَا»؛ واحتج من أثبته بقوله: [الوافر] لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ *** كَمَا النِّسْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ أُريدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي *** وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ انتهى. ثم ذكّرهم سبحانه بحالِ ضلالهم؛ ليظهر قدر إِنعامه عليهم. {وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ}، أي: من قبل الهدى. وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المخاطب بهذه الآيةِ قريشٌ، ومن وَلَدَتْ، قاله ابن عبَّاس وغيره، وذلك أنهم كانوا لا يخرجُونَ من الحَرَم، ويَقِفُون بجَمْعٍ، ويفيضون منْه، مع معرفته أنَّ عرفة هي موقفُ إِبراهيم، فقِيلَ لهم: أفيضُوا من حيثُ أفاضَ النَّاس، أي: من عرفة، «ثُمَّ» ليست في هذه الآية للترتيبِ، إِنما هي لعطف جملة كلامٍ على جملة هي منها منقطعةٌ. وقال الضَّحَّاك: المخاطب بالآيةِ جملةُ الأمَّة، والمرادُ بالناسِ إبراهيم، ويحتملُ أن تكون إِفاضةً أخرى، وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا عوَّل الطَبريُّ، فتكون «ثُمَّ» على بابها، وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر: «النَّاسِي»، وتأوَّله آدم- عليه السلام-، وأمر عز وجل بالاستغفار؛ لأنها مواطنه، ومظَانُّ القبولِ، ومساقطُ الرحْمَةِ، وفي الحديث أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَب عشيَّة عَرَفَةَ، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلاَّ التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَفِيضُوا عَلَى اسم اللَّهِ»، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ، خَطَبَ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التَّبِعَاتِ مِنْ عِنْدِهِ ".
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)} وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم}... الآية. قال مجاهد: المناسكُ: الذبائحُ، وهي إِراقة الدِّماء. * ع *: والمناسكُ عندي العباداتُ في معالمِ الحجِّ، ومواضع النسك فيه. والمعنى: إِذا فرغتُمْ من حجِّكم الذي هو الوقوفُ بعرفة، فاذكروا اللَّه بمحامده، وأثْنُوا عليه بآلائه عندكم، وكانت عادَةُ العَرَبِ، إِذا قَضَتْ حجَّها، تقفُ عند الجَمْرة تتفاخَرُ بالآباء، وتذكر أيام أسلافها؛ من بَسَالةٍ، وكَرَم، وغير ذلك، فنزلَتِ الآية، أنْ يُلْزِموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيامِ الجاهلية، هذا قول جمهور المفسِّرين. وقال ابن عبَّاس، وعطاء: معنى الآيةِ: واذكروا اللَّه؛ كذكر الأطفال آباءهم، وأمهاتهمْ، أي: فاستغيثوا به، والْجئوا إِليه. قال النوويُّ في «حليته»: والمرادُ من الذِّكْر حضورُ القَلْب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر، فيحرص على تحصيله، ويتدبَّر ما يذكر، ويتعقَّل معناه، فالتدبُّر في الذكْر مطلوبٌ؛ كما هو مطلوب في القراءة؛ لاشتراكهما في المعنَى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيحُ المختارُ استحبابَ مَدِّ الذاكرِ قوله: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، لما فيه من التدبُّر، وأقوالُ السلفِ، وأئمةِ الخَلَف في هذا مشهورةٌ. انتهى. قال الشيخُ العارفُ أبو عبد اللَّه محمَّد بن أحمد الأنصاريُّ الساحليُّ المَالقِيُّ: ومنفعةُ الذكْرِ أبداً إِنما هي تَتْبع معناه بالفكْرِ؛ ليقتبس الذاكِرُ من ذُكْرِهِ أنوار المعرفة، ويحصل على اللُّبِّ المراد، ولا خير في ذِكْرٍ مع قَلْبٍ غافلٍ ساهٍ، ولا مع تضْييعِ شيءٍ من رسوم الشرعِ، وقال في موضعٍ آخر من هذا الكتاب الذي ألَّفه في «السُّلوك»: ولا مَطْمع للذَّاكر في دَرْكِ حقائقِ الذِّكْرِ إِلا بإِعمال الفكْر فيما تحْت ألفاظ الذكْر من المعانِي، وليدفع خَطَرات نفْسه عن باطنه راجِعاً إِلى مقتضى ذكْره؛ حتى يغلب معنى الذكْر على قلبه، وقد آن له أنْ يدخل في دائرة أهْل المحاضَرَات. انتهى. وقوله تعالى: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا...} الآية: قال أبو وائلٍ وغيره: كانت عادتهم في الجاهلية الدُّعَاءَ في مصالحِ الدنْيا فقطْ؛ إذ كانوا لا يعرفون الآخرةَ، فَنُهُوا عن ذلك الدعاءِ المخصوصِ بأمر الدنيا، وجاء النهْيُ في صيغة الخبر عنه، والخَلاَقُ: الحظُّ، والنصيبُ. قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: حَسَنَةُ الدنيا: العلْمُ والعبَادة. * ع *: واللفظ أَعمُّ من هذا، وحَسَنةُ الآخِرة الجنَّة؛ بإِجماع، وعن أنس: قال: كان أكثر دعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما، زاد مسلمٌ: «وكَانَ أَنَسٌ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ». انتهى. {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} وعْدٌ على كسْب الأعمال الصالحة، والربُّ سبحانه سريعُ الحسابِ؛ لأنه لا يحتاجُ إِلى عقْد، ولا إِعمال فكْر، قيل لعليٍّ- رضي اللَّه عنه-: كيف يحاسِبُ اللَّه الخلائِقَ في يَوْمٍ، فقال: كما يَرْزُقُهُمْ فِي يومٍ، وقيل: الحسابُ هنا: المجازاتُ. وقيل: معنى الآية: سريعُ مجيءِ يومِ الحسابِ، فيكون المقصدُ بالآية الإِنذارَ بيَوْم القيامة.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)} وقوله تعالى: {واذكروا الله فِي أَيَّامٍ معدودات}. أَمَرَ اللَّه سبحانه بذكْره في الاْيام المعدوداتِ، وهي الثلاثة الَّتي بعد يَوْم النحر، ومن جملة الذكْر التكبيرُ في إِثْر الصَّلواتِ. قال مالك: يكبِّر من صلاة الظُّهْر يوم النَّحْر إِلى صلاة الصُّبْح من آخر أيام التَّشْريق، وبه قال الشافعيُّ، ومشهور مذهبِ مالكٍ، أنه يكبِّر إِثْر كلِّ صلاةٍ ثلاثَ تكْبيراتٍ. ومن خواصِّ التكبير وبركتِهِ ما رواه ابن السُّنِّيِّ، بسنده، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا رَأَيْتُمُ الحَرِيقَ، فَكَبِّرُوا؛ فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ " انتهى من «حلية النوويِّ». وقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ...} الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: المعنى: من نَفَر اليوم الثَّاني من الأيام المعدوداتِ، فلا حرج عليه، ومن تأخَّر إِلى الثالث، فلا إِثم عليه، كلُّ ذلك مباحٌ؛ إِذ كان من العربِ مَنْ يذمُّ المتعجِّل وبالعكْس، فنزلَتِ الآية رافعةً للجُنَاحِ قُلْتُ: وأهل مكة في التعجيلِ كغيرهم على الأصحِّ. ثم أمر سبحانه بالتقوى، وذكَّر بالحَشْر، والوقوفِ بين يَدَيْهِ. وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا...} الآية. قال السُّدِّيُّ: نزلَتْ في الأخْنَسِ بْنِ شريقٍ: أظهر الإِسلام، ثم هَرَب، فمرَّ بقومٍ من المسلمين، فأحرق لهم زرعاً، وقتل حُمُراً. قال: * ع *: ما ثبت قطُّ أن الأخنس أسلم، قُلْتُ: وفي ما قاله: * ع *: نَظَرٌ، ولا يلزم من عدم ثبوتِهِ عِنْده ألاَّ يثبت عنْد غيره، وقد ذكر أحمدُ بن نصرٍ الدَّاووديُّ في تفسيره؛ أنَّ هذه الآية نزلَتْ في الأخْنَس بْنِ شريق. انتهى، وسيأتي للطبريِّ نحوه. وقال قتادةُ، وجماعة: نزلَتْ هذه الآيةُ في كل مُبْطِن كُفْرٍ، أو نفاقٍ، أو كذبٍ، أو ضرارٍ، وهو يظهر بلسانه خلافَ ذلك، فهي عامَّة، ومعنى: {وَيُشْهِدُ الله}، أي: يقول: اللَّه يعلم أنِّي أقول حقًّا، والأَلَدُّ: الشديدُ الخصومةِ الذي يَلْوِي الحجج في كل جانبٍ، فيشبه انحرافُه المَشْيَ في لَدِيديِ الوَادِي. وعنه صلى الله عليه وسلم: " أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصْمُ ". و{تولى} و{سعى}: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكونا فِعْلَ قَلْبٍ، فيجيء «تولى» بمعنى: ضَلَّ وغَضِبَ وأنف في نَفْسه، فسعى بِحِيَلِهِ وإِدارته الدوائر علَى الإِسلام؛ نحا هذا المنحى في معنى الآية ابْنُ جُرَيْج، وغيره. والمعنى الثاني: أن يكونا فِعْلَ شخصٍ، فيجيء «تَوَلَّى» بمعنى: أدبر ونَهَض وسعى، أي: بقدميه، فقطع الطريقَ وأفسدها، نحا هذا المنحَى ابن عبَّاس وغيره. وقوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل}: قال الطبريُّ: المراد الأخنَسُ في إِحراقه الزرْعَ، وقتلِهِ الحُمُرَ؛ قال: * ع *: والظاهر أن الآية عبارةٌ عن مبالغته في الإِفساد. و {لاَ يُحِبُّ الفساد} معناه: لا يحبُّه من أهل الصَّلاح، أو لا يحبُّه دِيناً، وإِلا فلا يقع إِلاَّ ما يحبُّ اللَّه وقوعه، والفسادُ: واقعٌ، وهذا على ما ذهب إِليه المتكلِّمون من أنَّ الحُبَّ بمعنى الإِرادة. قال: * ع *: والحُبُّ له على الإِرادة مزيَّة إِيثارٍ؛ إِذ الحبُّ من اللَّه تعالى إِنما هو لما حَسُنَ من جميع جهاته.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)} وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله...} الآية: هذه صفة الكَافِرِ والمنافقِ الذاهِبِ بنَفْسِهِ زَهْواً، ويحذر المؤمن أن يوقعه الحَرَجُ في نحو هذا، وقد قال بعْضُ العلماءِ: كفى بالمرء إِثماً أنّ يقول له أخُوهُ: اتق اللَّهَ، فيقول له: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي. قُلْتُ: قال أحمد بن نَصْرٍ الداووديُّ: عن ابن مسعودٍ: من أكبر الذنبِ أنْ يقال للرجُلِ: اتق اللَّه، فيقولَ: علَيْكَ نَفْسَكَ، أَنْتَ تَأْمُرُنِي. انتهى. و {العزة} هنا: المنعة، وشدَّة النفْس، أي: اعتز في نفسه، فأوقعته تلك العزةُ في الإِثم، ويحتمل المعنى: أخذته العزَّةُ مع الإِثم. و {حَسْبُهُ}، أي: كافيه، و{المهاد}: ما مهد الرجلُ لنفسه؛ كأنه الفراشُ. وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ...} الآية: تتناول كلَّ مجاهدٍ في سبيل اللَّهِ، أو مستشهدٍ في ذاته، أو مغيِّر منْكَرٍ، وقيل: هذه الآية في شهداء غزوة الرَّجِيعِ عاصمِ بْنِ ثَابِتٍ، وخُبَيْب، وأصحابِهِمَا، وقال عكرمةُ وغيره: هي في طائفةٍ من المهاجرينَ، وذكروا حديثَ صُهَيْبٍ. و {يَشْرِي}: معناه يبيعُ؛ ومنه {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، وحكى قوم؛ أنه يقالُ: شرى؛ بمعنى اشترى، ويحتاجُ إِلى هذا من تأوَّل الآية في صُهَيْبٍ؛ لأنه اشترى نفْسَه بمالِهِ. وقوله تعالى: {والله رَءُوفٌ بالعباد} ترجيةٌ تقتضي الحضَّ على امتثال ما وقع به المدْحُ في الآية؛ كما أن قوله سبحانه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} تخويفٌ يقتضي التحذيرَ ممَّا وقع به الذمُّ في الآية، ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخولِ في السِّلْم، وهو الإِسلام، والمُسَالمة، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في أهل الكتابِ، والألف واللام في الشيطانِ للجنْسِ. و {عَدُوٌّ}: يقع للواحدِ، والاثنينِ، والجمعِ، وقوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات...} الآية: أصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاِعتقاداتِ، والآراءِ، وغَيْرِ ذلك، والمعنى: ضللتم، و{البينات} محمَّد صلى الله عليه وسلم وآياته، ومعجزاته، إِذا كان الخطابُ أوَّلاً لجماعةِ المؤمنين، وإِذا كان الخطابُ لأهل الكتاب، فالبيناتُ ما ورد في شرائعهم من الإِعلام بمحمَّد صلى الله عليه وسلم، والتعريفِ به. و {عَزِيزٌ}: صفة مقتضيةٌ أنَّه قادرٌ عليكم لا تعجزونَهُ، ولا تمتنعون منه، و{حَكِيمٌ}، أي: مُحْكِمٌ فيما يعاقبكم به لِزَلَلِكُمْ. وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ}، أيْ: ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلُّون، والظُّلَلُ: جمع ظُلَّة، وهي ما أظَلَّ من فوق، والمعنى: يأتيهم حكم اللَّه، وأمره، ونهيه، وعقابه إِياهم. وذهب ابن جُرَيْج وغيره؛ إِلى أن هذا التوعُّد هو مما يقع في الدنيا، وقال قومٌ: بل هو توعُّد بيوم القيامة، وقال قوم: إِلا أن يأتيهم اللَّه وعيد بيومِ القيامةِ. وأما {الملائكة}، فالوعيد بإِتيانهم عنْدَ المَوْت؛ والغمامُ: أرقُّ السحابِ، وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظُلِّلَ به بنو إِسرائيل. وقال النَّقَّاش: هو ضَبَابٌ أبيض، وقُضِيَ الأمرُ: معناه وقع الجزاء، وعُذِّبَ أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جَبَلٍ: «وقضاء الأمر». وإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ: هي راجعةٌ إِليه سبحانه قَبْل وبَعْد، وإِنما نبه بذكْر ذلك في يَوْم القيامة على زوالِ ما كان منْها إِلى الملوك في الدنيا.
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)} وقوله سبحانه: {سَلْ بَنِي إسراءيل...} الآية: معنى الآية: توبيخُهم على عنادهم بعد الآياتِ البيِّناتِ، والمراد بالآيةِ: كم جاءَهُمْ في أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم من آية مُعرِّفةٍ به دالَّةٍ عليه، و{نِعْمَةَ الله}: لفْظٌ عامٌّ لجميع إِنعامه؛ ولكنْ يقوِّي من حال النبيِّ صلى الله عليه وسلم معهم؛ أنَّ المشار إِليه هنا هو محمَّد صلى الله عليه وسلم فالمعنى: ومن يبدِّلْ من بني إِسرائيل صفةَ نعمة اللَّه، ثم جاء اللفظ منسحباً على كلِّ مبدِّل نعمةً للَّه، ويدخل في اللفظ كفَّار قريشٍ، والتوراةُ أيضاً نعمةٌ على بني إِسرائيل، فبدَّلوها بالتحريفِ لها، وجَحْدِ أمرِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}: خبرٌ يتضمنُ الوعيد. وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا...} الآية: الإِشارة إِلى كفار قريشٍ؛ لأنهم كانوا يعظمون حالهم في الدنيا، ويغتبطون بها، ويسخرون من أتْبَاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كبلالٍ، وصُهَيْبٍ، وابنِ مَسْعودٍ، وغيرهم، فذكر اللَّه قبيحَ فعلهم، ونبه على خَفْض منزلتهم بقوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة}، ومعنى الفوقيَّة هنا في الدرجَةِ والقَدْر؛ ويحتمل أن يريد أنَّ نعيم المتَّقِينَ في الآخرة فوْقَ نعيمِ هؤلاءِ الآن. قُلْتُ: وحكى الداووديُّ عن قتادة: فوقهم يوم القيامة. قال: فَوْقَهُم في الجَنَّة. انتهى. ومهما ذكرتُ الداووديَّ في هذا «المختصر»، فإِنما أريد أحمد بن نَصْرٍ الفقيهَ المَالِكِيَّ، ومن تفسيره أنا أنقل. انتهى. فإِن تشوَّفَتْ نفسُك أيها الأخُ إِلى هذه الفوقيَّة، ونَيْلِ هذه الدرجة العَليَّة، فارفض دنياك الدنيَّة، وازهَدْ فيها بالكليَّة؛ لتسلَمَ من كل آفة وبليَّة، واقتد في ذلك بخَيْر البريَّهْ. قال عِيَاضٌ في «شِفَاهُ»: فانظُرْ- رحمك اللَّه- سِيرَةَ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وخُلُقَه في المال، تجده قد أوتي خزائنَ الأرْض [ومفاتيح البلاد، وأُحلّت له الغنائم، ولم تحلَّ لنبي قبله، وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن؛ وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق]، وجُبِيَتْ إِلَيْه الأخماس، [وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إِلاَّ بعضه]، وهادَتْه جماعةٌ من الملوك، فما استأثر بشيء من ذلك، ولا أمْسَكَ دِرْهَماً منْه، بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين، ومات صلى الله عليه وسلم، ودِرْعُهُ مرهُونَةٌ في نفقةِ عيَالِهِ، واقتصر من نفقته ومَلْبَسِهِ على ما تدْعُوه ضرُورتُهُ إِليه، وزهد فيما سواه، فكان- عليه السلام- يلبس مَا وَجَدَ، فيلْبَسُ في الغالِبِ الشَّمْلَة، والكساءَ الخَشِنَ، والبُرْدَ الغليظَ. انتهى.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} وقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة...} الآية: قال ابن عبَّاس: {الناس}: القُرُونُ التي كانَتْ بين آدم ونوح، وهي عَشَرةٌ كانوا على الحَقِّ؛ حتى اختلفوا، فبعث اللَّه تعالى نوحاً فمن بعده، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة}، أي: كفاراً يريد في مدَّة نوحٍ؛ حين بعثه اللَّه. وقال أُبَيُّ بن كعب، وابنُ زَيْد: المرادُ ب {الناس} بنو آدم حين أخرجهم اللَّه نسماً من ظهر آدم، أي: كانوا على الفطْرة، وقيل غير هذا، وكل من قدَّر الناسَ في الآية مؤمنين، قدَّر في الكلام «فاختلفوا»، وكلُّ من قدَّرهم كفاراً، قدَّر: كانت بعثة النبيِّين إِلَيْهم. والأُمَّة: الجماعة على المَقْصد، ويسمَّى الواحدُ أُمَّةٍ، إِذا كان منفرداً بمَقْصِد، و{مُبَشِّرِينَ}: معناه بالثواب على الطاعةِ، و{مُنذِرِينَ}: بالعقابِ، و{الكتاب}: اسم الجنَسِ، والمعنى: جميع الكتب، و{لِيَحْكُمَ}: مسند إِلى الكتاب؛ في قول الجمهور، والذين أوتوه أرباب العلْم به، وخصوا بالذكْر تنبيهاً منه سبحانه على عظيمِ الشُّنْعة، والقُبْح، و{البينات}: الدَّلالات، والحججُ، والبغي: التعدِّي بالباطل، وهدى: معناه أرشد، والمرادُ ب {الذين ءَامَنُواْ} من آمن بمحمَّد صلى الله عليه وسلم فقالتْ طائفةٌ: معنى الآية أن الأمم كَذَّب بعضهم كتابَ بعض، فَهَدَى اللَّه أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم للتصديقِ بجمِيعِهَا، وقالتْ طائفة: إِن اللَّه سبحانه هَدَى المؤمنين للحَقِّ فيما اختلف فيه أهلُ الكتاب من قولهم: إِنَّ إِبراهيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرَانِيًّا، قال زيْدُ بن أسلم: وكاختلافهم في يوم الجُمُعَة؛ " فإِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «هذا اليومُ الَّذي اختلفوا فيه، فهَدَانا اللَّه له، فلليهود غَدٌ، وللنصارى بَعْدَ غد، وفي صيامهمْ، وجميع ما اختلفوا فيه» ". قال الفَرَّاء: وفي الكلام قلْبٌ، واختاره الطبريُّ، قال: وتقديرُهُ: فهدَى اللَّه الذين آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا، فيه ودعاه إِلى هذا التقديرِ خوْفُ أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحَقِّ، فهدى اللَّه المؤمنين لبَعْضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاه غير الحق في نَفْسه؛ نحا إِلى هذا الطبريُّ في حكايته عن الفَرَّاء. قال: * ع *: وادعاء القَلْب على كتابِ اللَّه دُونَ ضرورة تَدْفَعُ إِلى ذلك عَجْزٌ، وسُوء نَظَرٍ. وذلك أنَّ الكلام يتخرَّج على وجهه ورَصْفه؛ لأن قوله: {فهدى} يقتضي أنهم أصابوا الحَقَّ، وتم المعنى في قوله: {فِيهِ}، وتبيَّن بقوله: {مِنَ الحق} جنسُ ما وقع الخلاف فيه، و{بِإِذْنِهِ} قال الزجَّاج: معناه بعِلْمِهِ. * ع *: والإِذن هو العلم، والتمكين، فإِن اقترن بذلك أمرٌ، صار أقوى من الإِذن بمزية. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم...} الآية: أكثر المفسرين أنها نزلَتْ في قصَّة الأحزاب حين حصروا المدينة، وقالَتْ فرقةٌ: نزلَتْ تسليةً للمهاجرين، حين أصيبَتْ أموالهم بعْدَهم، وفيما نَالَهم من أذاية الكَافرينَ لهم. و {خَلَوْاْ}: معناه: انقرضوا، أي: صاروا في خَلاَءٍ من الأرض، و{البأساء} في المال، و{الضرآء} في البدن، و{مَّثَلُ}: معناه شبه، والزَّلْزَلَة: شِدَّة التحريك، تكون في الأشْخَاص والأحوال. وقرأ نافع: «يَقُولُ» بالرفع، وقرأ الباقون بالنَّصْب، وحتى: غايةٌ مجرَّدة تنصبُ الفعل بتقدير «إلى أَنْ» وعلى قراءة نافعٍ، كأنها اقترن بها تسبيبٌ، فهي حرفُ ابتداءٍ ترفَعُ الفعلَ. وأكثر المتأوِّلين على أن الكلام إِلى آخر الآية من قول الرَّسُول والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسُولِ على طلب استعجال النَّصْر، لا على شَكٍّ ولا ارتياب، والرسولُ اسم الجنْسِ، وقالتْ طائفةٌ: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والتقديرُ: حتى يقول الذين آمنوا: متى نَصْرُ اللَّهِ، فيقولَ الرسولُ: ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قريبٌ، فقدم الرسولَ في الرتبة؛ لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين؛ لأنه المتقدِّم في الزمان. قال: * ع *: وهذا تحكُّم، وحمل الكلام على وجهه غيرُ متعذِّر، ويحتملُ أن يكون: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} إِخباراً من اللَّه تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكْرِ القَوْل.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ...} الآية: السَّائِلُون: هم المؤمنون، والمعنى: يسألونك، ما هي الوجوهُ التي ينفقون فيها؟ و«ما» يصحُّ أنْ تكونَ في موضع رفعٍ على الابتداء، و«ذَا»: خبرها بمعنى «الَّذِي» و«يُنْفِقُونَ»: صلةٌ، و«فِيهِ» عائدٌ على «ذَا» تقديرُه: ينفقونَهُ، ويصحُّ أن تكون «مَاذَا» اسما واحداً مركَّباً في موضع نصب. قال قومٌ: هذه الآية في الزكاة المفروضةِ، وعلى هذا نسخَ منها الوالِدَانِ، وقال السُّدِّيُّ: نزلَتْ قبل فرض الزكاة، ثم نسختها آية الزكاة المفروضَة، وقال ابن جُرَيْجٍ وغيره: هي ندْبٌ، والزكاة غيْرُ هذا الإِنفاق، وعلى هذا لا نَسْخَ فيها. و {مَا تَفْعَلُواْ} جزم بالشرط، والجوابُ في الفاءِ، وظاهر الآية الخبرُ، وهي تتضمَّن الوعْدَ بالمجازاتِ، و{كُتِبَ}: معناه فُرِضَ واستمر الإِجماع على أن الجهاد على أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية. وقوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا...} الآية: قال قومٌ: عسى مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ، والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهادِ من المشقَّة، وهو خيرٌ لكم في أنكم تَغْلِبُونَ وتَظْهرون، وتَغْنَمُون، وتؤجَرُون، ومن مات، مَاتَ شهيداً، وعسى أن تُحِبُّوا الدَّعَةَ، وترك القتَالِ، وهو شرٌّ لكم في أنَّكم تُغْلَبُونَ، وتذلُّون، ويذْهَب أمركم. قال: * ص *: قوله: {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا} عسى هنا للترجِّي، ومجيئها له كثيرٌ في كلام العرب، قالوا: وكل «عسى» في القُرآن للتحقيق، يعْنُون به الوقوعَ إِلاَّ قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] انتهى. وفي قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ...} الآية- قوة أمر.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام...} الآية نزلَتْ في قصَّة عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، " وذلك أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً علَيْها عبد اللَّه بن جَحْشٍ الأسَدِيُّ مَقْدَمَهُ من بَدْر الأولى، فلقوا عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، ومعه عثمانُ بنُ عبد اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأخوه نَوْفَلٌ المخزوميَّان، والحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ في آخر يومٍ من رَجَبٍ على ما قاله ابْنُ إِسْحَاق، وقالوا: إِن تركْنَاهم اليَوْمَ، دخَلُوا الحَرَم، فأزمعوا قتالَهُم، فرمى واقدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ عمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ بسهْمٍ، فقتله، وأَسَرَ عثمانَ بْنَ عبدِ اللَّهِ، والحَكَمَ، وفَرَّ نوفَلٌ، فأعجزهم، واستسهل المسْلمون هذا في الشَّهْر الحرام؛ خوف فوتهم، فقالَتْ قريشٌ: محمَّد قد استحلَّ الأشهر الحُرُم، وعَيَّروا بذلك، وتوقَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ» " فنزلَتْ هذه الآية، و{قِتَالٍ} بدلُ اشتمالٍ عند سيبوَيْه. وقال الفَرَّاء: هو مخفوضٌ بتقدير «عَنْ» وقرئ بِهِ، والشهْرُ في الآيةِ اسمُ الجنسِ، وكانتِ العربُ قد جعل اللَّه لها الشهْرَ الحرامَ قِوَاماً تعتدلُ عنده، فكانت لا تسفكُ دماً، ولا تغيِّر في الأشهر الحرم، وهي ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحَرَّم ورَجَبٌ، وروى جابر بن عبد اللَّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِيهَا إِلاَّ أَنْ يغزى، فذلكَ قولُهُ تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ}: مبتدأٌ مقطوعٌ ممَّا قبله، والخبرُ «أَكْبَرُ»، ومعنى الآيةِ؛ على قول الجمهورِ: إِنكم يَا كُفَّار قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُون علَيْنا القتالَ في الشَّهْرِ الحَرَام، وما تفْعَلُون أنْتُمْ من الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ لِمَنْ أراد الإِسلام، وكُفْرِكم بِاللَّه، وإِخراجِكُم أهْلَ المسْجد عنْه؛ كما فعلتم برَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، أَكْبَرُ جُرْماً عند اللَّه. قال الزُّهْرِيُّ ومجاهدٌ وغيرهما: قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخٌ. * ص *: وسبيل اللَّه: دينُهُ، و{المسجد}: قراءة الجمهور بالخَفْض، قال المبرِّد، وتبعه ابن عطية وغيره: هو معطوفٌ على {سَبِيلِ الله}؛ وردَّ بأنه حينئذٍ يكون متعلِّقاً ب «صَدّ»، أي: وصَدّ عن سبيل اللَّهِ، وعن المسجدِ الحرامِ، فيلزم الفَصْلُ بين المصدر، وهو «صَدّ» وبين معموله، وهو «المسجد» بأجنبيٍّ، وهو: «وكُفْرٌ بِهِ»، ولا يجوز. وقيل: معطوفٌ على ضمير «بِهِ»، أي: وكُفْرٌ بِهِ، وَبِالْمَسُجِدِ؛ ورُدَّ بأن فيه عطفاً على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض؛ ولا يجوز عند جمهور البَصْرِيِّين، وأجازه الكوفيُّون، ويونُسُ، وأبو الحَسَنِ والشَّلَوْبِينُ، والمختار جوازه؛ لكثرته سماعاً؛ ومنه قراءة حمزة: {تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] أي: وبالأرحام، وتأويلها على غيره بعيدٌ يُخْرِجُ الكلام عن فصاحته. انتهى. وقوله تعالى: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل}: المعنى عند جمهور المفسِّرين: والفتنةُ التي كُنْتُمْ تفتنون المُسْلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشدُّ اجتراما من قَتْلكم في الشَّهْر الحرام، وقيل: المعنى والفِتْنَة أشَدُّ من أن لو قتلوا ذلك المَفْتُون. وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} هو ابتداءُ خبرٍ من اللَّه تعالى، وتحذيرٌ منه للمؤمنين. وقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ}، أي: يرجع عن الإِسلام إِلى الكفر؛ عياذاً باللَّه، قالَتْ طائفةٌ من العلماء: يُستَتَابُ المرتدُّ ثلاثةَ أيامٍ، فإِن تاب، وإِلا قتل، وبه قال مالك، وأحمد، وأصحابُ الرَّأيِ، والشَّافعيُّ في أحد قولَيْه، وفي قولٍ له: يُقْتَلُ دون استتابةٍ، وحبط العمل، إِذا انفسد في آخره، فبطل، وميراث المرتدِّ عند مالكٍ والشافعيِّ: في بيْتِ مال المسلمين. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله...} الآية: قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: لما عَنَّفَ المسلمون عبْدَ اللَّه بن جَحْشٍ وأصحابه، شَقَّ ذلك عليهم، فتلافاهم اللَّه عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقيةٌ في كلِّ من فعل ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ. وهَاجَرَ الرجُلُ، إِذا انتقل نقلة إِقامة من موضعٍ إِلى موضعٍ، وقصد ترك الأول إِيثاراً للثاني، وهي مُفَاعَلَةٌ من هَجَرَ، وجَاهَدَ مفاعلة من جهد، إِذا استخْرَج الجُهْد، و{يَرْجُونَ}: معناه يَطْمَعُون ويستقْربُون، والرجاء تنعُّم، والرجاء أبداً معه خوفٌ ولا بدَّ، كما أن الخوف معه رجاء. * ت *: والرجاءُ ما قارنه عمَلٌ، وإِلا فهو أمنيَّة.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)} قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر...} الآية: السائلُون هم المؤمنُونَ، والخَمْر: مأخوذ من خمر، إِذا ستر؛ ومنه: خِمَارُ المَرْأة، والخَمَرُ: ما واراك من شَجَر وغيره، ومنه قولُ الشاعر: [الوافر] أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا *** فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ ولما كانت الخمر تستُرُ العَقْل، وتغطِّي عليه، سُمِّيت بذلك، وأجمعت الأمة على تحريمِ خَمْر العِنَبِ، ووجوبِ الحدِّ في القليلِ والكثيرِ منْه، وجمهورُ الأمة على أن ما أسكر كثيرُهُ مِنْ غير خَمْرِ العِنَبِ محرَّم قليلُهُ وكثيرُهُ، والحدُّ في ذلك واجبٌ. وروي أنَّ هذه الآية أولُ تطرُّق إِلى تحريمِ الخَمْر، ثم بعده: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] ثم {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] ثم قوله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمَتِ الخَمُرْ»، ولم يحفَظْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين، خرَّجه مسلم، وأبو داود، وروي عَنْه صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً، وعمل بذلك هو، ثُمَّ عمر ثم تهافَتَ النَّاس فيها، فشدَّد عليهم الحَدَّ، وجعله كَأخفِّ الحدود ثَمَانِينَ؛ وبه قال مالك. ويجتنبُ من المضروبِ: الوجْهُ، والفَرْجُ، والقَلْب، والدِّماغ، والخَوَاصر؛ بإِجماع. قال ابن سِيرِينَ، والحسنُ، وابْنُ عَبَّاس، وابن المُسَيَّب، وغيرهم: كلُّ قمارٍ مَيْسِرٌ؛ مِنْ نَرْدٍ وشِطْرَنْجٍ، ونحوه، حتَّى لِعْب الصِّبْيَان بالجَوْز. * ت *: وعبارةُ الداووديّ: وعن ابْنِ عُمَر: المَيْسِرُ القِمَار كلُّه، قال ابن عبَّاس: كلُّ ذلك قمارٌ؛ حتى لعِبْ الصِّبْيَان بالجَوْز، والكِعَاب. انتهى. وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ...} الآية: قال ابن عبَّاس، والرَّبيع: الإِثم فيهما بعد التحريم، والمنفعةُ قبله. وقال مجاهد: المنفعةُ بالخَمْر كسب أثمانها، وقيل: اللَّذَّة بها إِلى غير ذلك من أفراحِها، ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ؛ أنَّ الإِثم أكْبَرُ من النَّفْع، وأعود بالضَّرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم. وقوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} قال جمهور العلماء: هذه نفقاتُ التطوُّع، والعفُو مأخوذ من عَفَا الشَّيْء، إِذا كَثُر، فالمعنَى: أنفِقُوا ما فَضَل عن حوائجِكُم، ولم تُؤْذُوا فيه أنفُسَكم، فتكونوا عالَةً على النَّاس. وقوله تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر، والإِنفاق، وأخبر تعالى؛ أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكْرته. قال الداووديّ: وعن ابن عبَّاس: لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ، يعني: في زوال الدنْيا وفنائِها، وإِقبال الآخرة وبقائِها. انتهى. قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- تَعَالَى: العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة؛ فإِنها مصيره ومستقرُّه، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ، أو نارٍ، أو غيرهما عبرةٌ؛ فإن نظر إلى سوادٍ، ذكر ظلمة اللَّحْد، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة، تذكَّر مُنْكَراً ونكيراً والزبانيةَ، وإِن سمع صوتاً هائلاً، تذكَّر نفخة الصُّور، وإِنْ رأى شيئاً حسَناً، تذكَّر نعيم الجنَّة، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ؛ من ردٍّ أو قبول، ما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة، استحقر الدنيا إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه، وأعميتْ بصيرته. انتهى من «الإِحياء». وقوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}: قال ابن عبَّاس، وسعيد بن المسيَّب: سبب الآية أن المسلمين لما نزلَتْ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} [الأنعام: 152] و[الإسراء: 34] ونزلت: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] تجنبوا اليتامى وأموالَهم، وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم...} الآية، وأمر اللَّه سبحانه نبيَّه؛ أن يجيب بأن من قصد الإِصلاح في مال اليتيمِ، فهو خيْرٌ، فرفع تعالى المشقَّة، وأباح الخُلْطة في ذلك إِذا قُصِدَ الإِصلاح، ورفْقُ اليتيم. وقوله سبحانه: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح}: تحذيرٌ. وقوله تعالى: {وَلَوْ شآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ}، أي: لأتعبكم في تجنُّب أمر اليتامَى، والعَنَتُ: المشقَّة، ومنه عَقَبَةٌ عَنُوتٌ؛ ومنه: عَنَتُ العُزْبَةِ، و{عَزِيزٌ}: مقتضاه لا يرد أمره، و{حَكِيمٌ}: أي: مُحْكِمٌ ما ينفذه.
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)} وقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} ونَكَح: أصله في الجمَاع، ويستعمل في العَقْد تجوُّزاً. قالت طائفة: المشركاتُ هنا: من يُشْرِكُ مع اللَّه إِلهاً آخرْ. وقال قتادة وابْنُ جُبَيْر: الآية عامَّة في كل كَافِرة، وخصَّصتها آية المائدة، ولم يتناوَلِ العمومُ قطُّ الكتابيَّاتِ، وقال ابنُ عبَّاس، والحسن: تناولهن العمومُ، ثم نَسَخَتْ آيةُ المائدة بَعْضَ العمومِ في الكتابيَّات، وهو مذهب مالكٍ- رحمه اللَّه- ذكره ابن حَبِيبٍ. وقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ...} الآية. هذا إِخبار من اللَّه سبحانَه أن المؤمنة المَمْلُوكة خَيْرٌ من المشركة، وإِن كانت ذاتَ الحَسَب والمَالِ، ولو أعجبتْكم في الحُسْن وغير ذلك، هذا قول الطَّبَرِيِّ وغيره. وقوله سبحانه: {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ...} الآية: أجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجْهٍ؛ لما في ذلك من الغَضَاضَةِ على دين الإِسلام. قال بعض العلماء: إِن الولايةَ في النكاحِ نصٌّ في هذه الآية، قلت: ويعني ببعض العلماءِ محمَّدَ بْنَ عليِّ بْنِ حُسَيْنٍ، قاله ابنُ العَرَبِيِّ. انتهى. ولَعَبْدٌ مُؤمنٌ مملوكٌ خَيْرٌ من مشركٍ حسيبٍ، ولو أعجبكم حُسْنُه ومالُهُ؛ حسبما تقدَّم. قال: * ع *: وتحتمل الآية عنْدي أن يكون ذكْر العَبْدِ والأمةِ عبارةً عن جميع الناسِ حُرِّهم ومملوكِهِم؛ إِذْ هم كلُّهم عبيده سُبْحَانه. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار}، أي: بصحبتهم، ومعاشرتهم، والاِنحطاطُ في كثيرٍ من أهوائهم، واللَّه عزَّ وجلَّ مُمِنٌّ بالهداية، ويبيِّنُ الآياتِ، ويحضُّ على الطاعات التي هي كلُّها دواعٍ إِلى الجنَّة، والإِذن: العلْم والتمكينُ، فإِن انضاف إلى ذلك أمْرٌ، فهو أقوى من الإِذن؛ لأنك إِذا قلْتَ: أذنْتُ في كذا، فليس يلزمك أنَّكَ أمرْتَ، و{لَعَلَّهُمْ}: ترجٍّ في حق البشر، ومن تذَكَّر، عمل حَسَبَ التذكُّر، فنَجَا.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} قال الطبريُّ عن السُّدِّيِّ: إنَّ السائلَ ثابتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ، وقال قتادةُ وغيره: إِنما سألوه؛ لأنَّ العرب في المدينةِ وما والاها، كانُوا قد استنوا بسُنَّة بني إِسرائيل في تجنُّب مواكلة الحائِضِ، ومساكَنَتِها، فنزلَتِ الآية. وقوله تعالى: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} يريدُ: جماعَهُنَّ بما فَسَّر من ذلك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ أنْ تشدَّ الحائِضُ إِزارها، ثُمَّ شأنُه بأعلاها. قال أحمدُ بن نَصْرِ الداووديّ: روي أنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اتقوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ؛ فَإِنَّ الجُذَامَ يَكُونُ مِنْ أَوْلاَدِ المَحِيضِ " انتهى. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ}، وقرأ حمزة وغيره «يَطَّهَّرْنَ»؛ بتشديد الطاء والهاء، وفتحهما، وكلُّ واحدة من القراءَتَيْنِ يحتملُ أنْ يراد بها الاِغتسالُ بالماء، وأن يراد بها انقطاعُ الدمِ، وزوالُ أذاه، قال ابنُ العربيُّ في «أحكامه»: سمعْتُ أبا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يقولُ: إِذا قيل: لا تَقْرَبْ؛ بفتح الراء، كان معناه: لا تَلْتَبِسْ بالفعلِ، وإِذا كان بضم الراء، كان معناه لا تَدْن منه. انتهى. وجمهورُ العلماء على أنَّ وطأها في الدَّمِ ذنْبٌ عظيمٌ يتاب منْه، ولا كفَّارة فيه بمالٍ، وجمهُورهم على أن الطُّهْر الذي يُحِلُّ جماعَ الحائِض، هو بالماءِ؛ كطهر الجُنُب، ولا يجزئ من ذلك تَيَمُّمٌ ولا غيره. وقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ...} الآية: الخلافُ فيها كما تقدَّم، وقال مجاهدٌ وجماعةٌ: {تَطَهَّرْنَ}، أي: اغتسلن بالماء بقرينةِ الأمر بالإِتيان؛ لأنَّ صيغة الأمْرِ من اللَّهِ تعالى لا تقعُ إِلا على الوَجْه الأكمل، و{فَأْتُوهُنَّ}: أمر بعد الحَظْر يقتضي الإِباحة، والمعنى: من حيثُ أمركم اللَّه باعتزالهن، وهو الفَرْج، أو من السُّرَّة إِلى الرُّكْبة؛ على الخلاف في ذلك، وقال ابن عبَّاس: المعنى: من قِبَلِ الطُّهْرِ، لا من قِبَلِ الحَيض، وقيل: المعنى مِنْ قِبَلِ حالِ الإِباحة، لا صائماتٍ ولا مُحْرِماتٍ، ولا غيرَ ذلك، والتَّوَّابُون: الرجَّاعون، وعُرْفُهُ من الشَّرِّ إِلى الخير، والمُتَطَهِّرْونَ: قال عطاءٌ وغيره: المعنى: بالماء، وقال مجاهد وغيره: المعنى: من الذنوب.
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} وقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ...} الآية: مبيحةٌ لهيئات الإِتيان كلِّها، إِذا كان الوطء في موضع الحرثِ، ولفظة «الحَرْث» تعطي أنَّ الإِباحة لم تقعْ إِلا في الفَرْجِ خاصَّة؛ إِذ هو المُزْدَرَعُ. قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: وفي سبب نزولِ هذه الآية رواياتٌ: الأولى: عن جابرٍ، قال: كانَتِ اليهودُ تقولُ: من أتَى امرأة فِي قُبُلِهَا منْ دُبُرِهَا، جَاءَ الوَلَدُ أَحْوَلَ، فنزلَتِ الآية، وهذا حديثٌ صحيحٌ خرَّجه الأئمَّة. الثانية: قالتْ أمُّ سلَمَة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}: قال: " يَأْتِيَها مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً، إِذَا كَانَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " خرَّجه مسْلم، وغيره. الثالثة: ما رَوَى الترمذيُّ أنَّ عمر جاء إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ لَهُ: هَلَكْتُ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: حَوَّلْتُ البَارِحَةَ رَحْلِي، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً، حتى نزلَتْ: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، واتق الدُّبُرَ» انتهى. قال: * ع *: و{أنى شِئْتُمْ}: معناه عند جمهور العلماء: من أيِّ وجهٍ شئتم؛ مقبلةً، ومدبرةً، وعلى جَنْب. قال: * ع *: وقد ورد عَنْ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم في مصنَّف النسائيِّ وفي غيره؛ أنه قَالَ: " إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ "، وورد عنْه فيه، أنَّه قال: " مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امرأة فِي دُبُرَهَا "، وورد عنه، أنَّه قال: " مَنْ أَتَى امرأة فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ على قَلْبِ مُحَمَّدٍ "، وهذا هو الحقُّ المتَّبع، ولا ينبغي لمؤمنٍ باللَّه أن يعرج بهذه النازلة على زَلَّة عالِمٍ بعد أنْ تصحَّ عنْه، واللَّه المرشِدُ لا ربَّ غيره. وقوله جلَّت قُدْرته: {وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ}. قال السُّدِّيُّ: معناه: قدِّموا الأجْر في تجنُّب ما نُهِيتُمْ عنْه، وامتثال ما أُمِرْتُمْ به- {واتقوا الله}: تحذيرٌ- {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه}: خبرٌ يقتضي المبالغَةَ في التحْذير، أي: فهو مجازيكُمْ علَى البِرِّ والإِثم {وَبَشِّرِ المؤمنين}: تأنيسٌ لفاعلي البرِّ، ومِتَّبِعِي سُنَن الهدى. /
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)} قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم...} الآية: مقصد الآيةِ: ولا تُعرِّضوا اسم اللَّهِ تعالى، فتكثروا الأيمان به، فإِن الحِنْثَ يقع مع الإِكثار، وفيه قِلَّة رَعْيٍ لحقِّ اللَّه تعالى. وقال الزجَّاج وغيره: معنى الآيةِ: أنْ يكون الإِنسان، إِذا طُلِبَ منه فعْلُ خيرٍ ونحوه، اعتل باللَّه، وقال: عليَّ يمينٌ، وهو لم يحلفْ. وقوله: {عُرْضَةً}، قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: اعلم أنَّ بناء عرض في كلامِ العربِ يتصرَّف على معانٍ مرجعُها إِلى المَنْع؛ لأنَّ كلَّ شيء عرضٌ، فقد منع، ويقال لما عرض في السَّمَاء من السحَابِ عَارِضٌ؛ لأنه يمنع من رؤيتها، ومن رؤية البدْرَيْن، والكواكبِ. انتهى. و {أَن تَبَرُّواْ}: مفعولٌ من أجله، والبِرُّ: جميع وجوه البرِّ، وهو ضِدُّ الإِثم- و{سَمِيعٌ}، أي: لأقوالِ العبادِ- {عَلِيمٌ}: بنياتهمْ، وهو مُجَازٍ على الجميع، واليمين: الحَلِفُ، وأصله أنَّ العَرَب كانت إِذا تحالَفَت، أو تعاهَدَت، أخذ الرجل يمينَ صاحبه بيمينه، ثم كَثُر ذلك حتى سمي الحلف والعَهْد نفسه يميناً. وقوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم}: اللَّغْو: سَقَطُ الكلامِ الَّذي لا حُكْم لَه. قال ابنُ عَبَّاس، وعائشَةُ، والشَّعْبِيُّ، وأبو صالِحٍ، ومجاهد: لَغْو اليمينِ: قولُ الرجلِ في دَرْجِ كلامِهِ واستعجاله في المحاورة: لا واللَّهِ، وبلى وَاللَّهِ، دون قصدٍ لليمينِ، وقد أسنده البخاريُّ عن عائشة. وقال أبو هريرة، والحَسَن، ومالكٌ، وجماعة: لغو اليمين: ما حلف به الرجُلُ على يقينه، فكشف الغيبُ خلافَ ذلك. * ع *: وهذا اليقينُ هو غلبة الظَّنِّ. وقال زيدُ بْنُ أسْلَمَ: لغو اليمينِ: هو دعاءُ الرجلِ على نَفْسه. وقال الضَّحَّاك: هي اليمينُ المكفَّرة. وحكى ابنُ عبد البَرِّ قَولاً؛ أن اللغو أيمانُ المُكْرَهِ. قال: * ع *: وطريقةُ النَّظَر أن تتأمَّل لفظة اللغْو، ولفظة الكَسْب، ويُحَكَّم موقعهما في اللغة، فكَسْب المرء ما قَصَده، ونواه، واللَّغْوُ: ما لم يتعمَّده، أو ما حقُّه لهجنته أن يسقط، فيقوَّى على هذه الطريقة بعْض الأقوال المتقدِّمة، ويضعَّف بعضها، وقد رفع اللَّه عز وجَلَّ المؤاخذة بالإِطلاق في اللَّغْو، فحقيقته: ما لا إِثم فيه، ولا كفارة، والمؤاخذةُ في الأيمان هي بعقوبةِ الآخِرَةِ في الغَمُوس المَصْبُورة، وفيما تُرِكَ تكفيره ممَّا فيه كفَّارة، وبعقوبة الدنيا في إِلزام الكفَّارة، فيضعَّف القول بأنها اليمين المكفَّرة؛ لأن المؤاخذة قد وَقَعَتْ فيها، وتخصيصُ المؤاخذة؛ بأنها في الآخرة فقَطْ تحكُّم. * ت *: والقولُ الأوَّل أرجح، وعليه عَوَّل اللَّخْميُّ وغيره. وقوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}. قال ابن عبَّاس وغيره: ما كسب القلْبُ هي اليمينُ الكاذبة الغموسُ، فهذه فيها المؤاخذة في الآخرةِ، أي: ولا تكفّر. * ع *: وسمِّيت الغَمُوسَ؛ لأنها غَمَسَتْ صاحِبَها في الإِثم، و{غَفُورٌ حَلِيمٌ}: صفتان لائقتان بما ذكر من طَرْح المؤاخذة، إِذ هو بابُ رفْقٍ وتوسعة.
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)} وقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ...} الآية: {يُؤْلُونَ}: معناه يَحْلِفُون، والإِيلاءُ: اليمين. واختلف مَنِ المرادُ بلزومِ حكمِ الإِيلاء. فقال مالكٌ: هو الرجُلُ يغاضب امرأته، فيحلفُ بيمينٍ يلحقُ عن الحِنْثِ فيها حُكْمُ ألاَّ يطأها؛ ضرراً منْه، أكْثَرَ من أربعة أشهر، لا يقصد بذلك إِصلاحَ ولَدٍ رضيعٍ ونحوه، وقال به عطاءٌ وغيره. وقوله تعالى: {مِن نِّسَآئِهِمْ} يدخل فيه الحرائرُ والإِماء، إِذا تزوَّجن، والتربُّص: التأنِّي والتأخُّر، وأربعَةَ أشْهُرٍ؛ عند مالك، وغيره: للحر، وشهران: للعبد. وقال الشافعيُّ: هو كالحرِّ، و{فَآءُو}: معناه: رجَعُوا؛ ومنه: {حتى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أمر اللَّه: قال الجُمْهور: وإِذا فاء، كَفَّر، والفَيْءُ؛ عند مالكٍ: لا يكون إِلا بالوطْء، أو بالتكْفير في حال العُذْر.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)} قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوءٍ} حكم هذه الآية قصْدُ الاِستبراءِ، لا أنه عبادةٌ؛ ولذلك خرجَتْ منه مَنْ لم يُبْنَ بها؛ بخلاف عِدَّة الوفاةِ الَّتي هي عبادةٌ والقَرْءُ؛ في اللغةِ: الوقْتُ المعتادُ تردُّده، فالحَيْضُ يسمى على هذا قُرْءاً، وكذلك يسمَّى الطُّهْرُ قُرءاً. واختلف في المراد بالقُرُوء هنا: فقال عُمَرُ وجماعةٌ كثيرةٌ: المراد بالقروء، في الآية: الحَيْضُ، وقالتْ عائشةُ وجماعةٌ من الصَّحابة، والتابعين، ومن بعدهم: المراد: الأطهار، وهو قولُ مالكٍ. واختلف المتأوِّلون في قوله: {مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ}. فقال ابن عُمَر، ومجاهدٌ، وغيرهما: هو الحَيْضُ، والحَبَل جميعاً، ومعنى النهْيِ عن الكتمان: النهْيُ عن الإِضرار بالزَّوْجِ في إِلزامه النفقَةَ، وإِذهابِ حقه في الارتجاع، فأُمِرْنَ بالصدْقِ نفياً وإِثباتاً، وقال قتادة: كانتْ عادتهُنَّ في الجاهليةِ أنْ يكتمْنَ الحَمَل؛ لِيُلْحِقْنَ الولد بالزوْج الجديدِ، ففي ذلك نزلَتِ الآية. وقال ابن عَبَّاس: إِن المرادَ الحَبَل، والعموم راجحٌ، وفي قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ} ما يقتضي أنهنَّ مؤتمناتٌ على ما ذكر، ولو كَان الاِستقصَاءُ مباحاً، لم يمكن كَتْمٌ. وقوله سبحانه: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله...} الآية: أي: حقَّ الإِيمان، وهذا كما تقولُ: إِن كُنْتَ حُرًّا، فانتصر، وأنتَ تخاطبُ حُرًّا، والبَعْلُ: الزوْجُ، ونصَّ اللَّه تعالى بهذه الآية على أن للزوْجِ أن يرتجعَ امرأته المطلَّقة، ما دامَتْ في العدَّة، والإِشارة بذلك إِلى المدَّة بشرط أنْ يريدَ الإِصْلاَح، دون المُضَارَّة؛ كما تُشُدِّدَ على النساء في كَتْمِ ما في أرحامهن، وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ...} الآية: تعمُّ جميعَ حقوقِ الزوجيَّة. وقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال مجاهدٌ: هو تنبيهٌ على فضْلِ حظِّه على حظِّها في الميراث، وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم: ذلك في الطَّاعة؛ علَيْها أنْ تطيعه، وليس علَيْه أن يطيعَهَا، وقال ابن عباس: تلك الدرَجَةُ إِشارة إِلى حضِّ الرجُلِ على حُسْن العِشرة، والتوسُّع للنساء في المالِ والخُلُقِ، أي: أنَّ الأفضل ينبغِي أنْ يتحامَلَ على نفسه، وهو قولٌ حسَنٌ بارعٌ.
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} وقوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ...} الآية: قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: نزلَتْ هذه الآية بياناً لِعَدَدِ الطلاقِ الذي للمرء فيه أنْ يرتجعَ دون تجديدِ مَهْرٍ ووليٍّ، وقال ابن عبَّاس وغيره: المراد بالآية التعريفُ بسُنَّة الطلاقِ، وأنَّ من طلَّق اثنتَيْنِ، فليتَّق اللَّه في الثالثَةِ، فإِما تركَهَا غيْرَ مظلومةٍ شيئاً من حقِّها، وإِما أمسكها محسناً عشْرَتَها. * ع *: والآية تتضمَّن هذين المعنيين. * ص *: الطلاقُ: مبتدأٌ؛ على حذفِ مضافٍ، أي: عدد الطلاق، ومرَّتانِ: خبره. انتهى. والإِمساكُ بالمعروفِ: هو الاِرتجاعُ بعد الثانية إِلى حسن العِشْرةِ، والتسْريحُ: يحتمل لفظه معنَيَيْنِ: أحدهما: تركها تتمُّ العدة من الثانية، وتكون أملكَ بنَفْسها، وهذا قولُ السُّدِّيِّ، والضَّحَّاك. والمعنَى الآخر: أن يطلقها ثالثةً، فيسرِّحها بذلك، وهذا قولُ مجاهِدٍ، وعطاءٍ، وغيرهما، وإِمْسَاك: مرتفع بالاِبتداءِ والخبر أمثل أو أحسن. وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا...} الآية: خطابٌ للأزواجِ، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئًا؛ على وجه المضارَّة، وهذا هو الخُلْع الذي لا يصحُّ إِلاّ بأن لا ينفردَ الرجُلُ بالضَّرر، وخصَّ بالذكْر ما آتى الأَزْوَاجُ نساءَهم؛ لأنه عرف الناس عند الشِّقَاق والفَسَاد أنْ يطلبوا ما خَرَجَ من أيديهم، وحرَّم اللَّه تعالى علَى الزَّوْجِ في هذه الآية أنْ يأخذ إِلا بعد الخوف ألاَّ يقيما حدودَ اللَّه، وأكَّد التحريم بالوعيدِ، وحدود اللَّه في هذا الموضعِ هي ما يلزمُ الزوجَيْنِ مِنْ حُسْنِ العشرة، وحقوقِ العِصْمَة. وقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}: المخاطبة للحُكَّام والمتوسِّطين لهذا الأمر، وإِن لم يكونوا حُكَّاماً، وتَرْكُ إِقامة حدود اللَّه: هو استخفاف المرأة بحقِّ زوجها، وسوءُ طاعتها إِياه؛ قاله ابن عباس، ومالكٌ، وجمهور العلماء. وقال الشَّعبيُّ: {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}: معناه: ألاَّ يطيعَا اللَّه، وذلك أنَّ المغاضبة تَدْعُو إِلى ترك الطاعة. وقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} إِباحة للفدْية، وشَرَّكَهَا في ارتفاع الجُنَاحِ؛ لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيثُ لا يجُوزُ له أخْذه، وهي تَقْدِرُ على المخاصَمَةِ. قال ابن عَبَّاس، وابنُ عمر، ومالكٌ، وأبو حنيفةَ، وغيرهم: مباحٌ للزَّوْج أن يأخذ من المرأةِ في الفدْيَة جميعَ ما تملكُهُ؛ وقضى بذلك عمر بن الخَطَّاب. وقال طَاوُسٌ، والزُّهْرِيّ، والحَسَن، وغيرهم: لا يجوزُ له أنْ يزيدَ على المَهْر الذي أعطاها، وقال ابن المُسَيِّب: لا أرى أن يأخذ منها كلَّ مالِها، ولكنْ لِيَدَعْ لها شيئًا. وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله...} الآية: أي: هذه الأوامر والنواهي، فلا تتجاوزُوها، ثم توعَّد تعالى على تجاوُزِ الحَدِّ بقوله: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون}، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ».
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)} قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ...} الآية: قال ابنُ عَبَّاس وغيره: هو ابتداء الطلْقةِ الثالثةِ؛ قال: * ع *: فيجيء التسريحُ المتقدِّم ترك المرأة تتمُّ، عِدَّتها من الثانية، وأجمعتِ الأُمَّةُ في هذه النازلةِ على اتباع الحديثِ الصحيحِ في امرأة رِفَاعَةَ، حِينَ تزوَّجت عبْدَ الرحمنِ بْنَ الزَّبِيرِ، فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَعَلَّكِ أَرَدتِّ الرُّجُوعَ إلى رِفَاعَةَ، لاَ؛ حتى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ "؛ فرأَى العلماء أنه لا يُحِلُّها إِلا الوطءُ. وكلُّهم على أن مَغِيبَ الحَشَفة يُحِلُّ إِلا الحسنَ بْنَ أبي الحَسَن، قال: لا يحلُّها إِلا الإِنزال، وهو ذَوْقُ العُسَيْلَةَ، والذي يُحِلُّها عند مالك النكاحُ الصحيحُ، والوطْء المُباح. وقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله...} الآية: المعنى: فإِنْ طلَّقها المتزوِّج الثَّاني، فلا جُنَاح عليهما، أي: المرأة والزوج الأول. قاله ابن عَبَّاس، ولا خلاف فيه، والظنُّ هنا على بابه من تغليبِ أحد الجائزَيْن، وخص الذين يعلمون بالذكْر تشريفاً. وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء...} الآية: خطابٌ للرجالِ، نُهِي الرجُلُ أن يطول العدَّة، مضارَّةً لها؛ بأن يرتجع قرب انقضائها، ثم يطلِّق بعد ذلك؛ قاله الضَّحَّاك وغيره، ولا خلاف فيه. ومعنَى: {بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}: قاربْنَ؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك، ومعنى: أمسكوهنَّ راجِعُوهنَّ- و{بِمَعْرُوفٍ}: قِيلَ: هو الإِشهاد- {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ}، أي: لا تراجعوهنَّ {ضِرَارًا}، وباقي الآية بَيِّنٌ. وقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا...} الآية: المرادُ بآياته النازلَةُ في الأوامر والنَّواهِي، وقال الحسن: نزلَتْ هذه الآية فيمَنْ طَلَّق لاعباً أو هازئاً، أو راجَعَ كذلك. وقالتْ عائشةُ: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: " ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ ". ثم ذَكَّرَ اللَّه عباده بإِنعامه سبحانه علَيْهم بالقرآن، والسُّنَّة، و{الْحِكْمَةِ}: هي السُّنَّة المبينة مرادَ اللَّه سبحانه. وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ...} الآية: خطابٌ للمؤمنين الذين منْهم الأزواج، ومنهم الأولياءُ؛ لأنهم المراد في تَعْضُلُوهنَّ، وبلوغ الأجلِ في هذا الموضِعِ تناهِيهِ؛ لأن المعنى يقتضي ذلكَ. وقد قال بعضُ النَّاسِ في هذا المعنى: إِن المراد ب {تَعْضُلُوهُنَّ}: الأزواجُ؛ وذلك بأن يكون الاِرتجاعُ مضارَّة؛ عضْلاً عن نكاحِ الغَيْر، فقوله: {أزواجهن}؛ على هذا، يعني به: الرجالَ؛ إِذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب {تَعْضُلُوهُنَّ} الأولياءُ، فالأزواج هم الذين كُنَّ في عصمتهم. «وَالعَضْل»: المَنْع وهو من معنى التضْييقِ والتعسيرِ؛ كما يقال: أعْضَلَتِ الدجاجَةُ، إِذا عَسُر بيضُها، والدَّاء العُضَال: العسيرُ البرءِ، وقيل: نزلَتْ هذه الآيةُ في مَعْقِل بْنِ يَسَارٍ، وأخته، لما طلَّقها زوجها، وتمَّتْ عدَّتُها، أراد ارتجاعها، فمنعَهُ وليُّ المرأة، وقيل: نزلَتْ في جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، وأختِهِ. وهذه الآيةُ تقتضي ثبوتَ حَقِّ الولي في إِنكاح وليَّته، وقوله: {بالمعروف}: معناه: المهر، والإِشهاد. وقوله تعالى: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ} خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم رجُوعٌ إِلى خطابِ الجَمَاعة، والإِشارة في {ذلكم أزكى} إِلى ترك العَضْل، و{أزكى... وَأَطْهَرُ}: معناه: أطيبُ للنفْسِ، وأطهر للعِرْضِ والدِّين؛ بسبب العلاقاتِ التي تكونُ بين الأزواجِ، وربَّما لم يعلمها الوليُّ، فيؤدِّي العَضْلُ إِلى الفسادِ، والمخالطةِ؛ على ما لا ينبغِي، واللَّه تعالى يعلَمُ من ذلك ما لا يعلَمُ البَشَر.
|